الهجرة النبوية الحدث الذى غير التاريخ

الهجرة النبوية الحدث الذى غير التاريخ


مكث النبي (صلى الله عليه وسلم) في مكة ثلاثة عشر عامًا قبل الهجرة النبوية يدعو الناس إلى الإسلام، ويبصرهم بشرائعه، ويرشدهم إلى أحكامه، دون أن يتطرق إليه ملل، أو يصيبه كلل أو ضجر، لا تصرفه عن دعوته الشواغل، ولا يثنيه عن التبليغ وعد أو وعيد ولا تهديد ، وإنما هو ماض في طريقه، ترعاه عناية الله وتحوطه رحمته، لم يجد وسيلة تمكّنه من تبليغ دعوته إلا اتبعها، وأخذ بأسباب كل الطرق اللتى تؤدى الى النجاح ، طرق كل باب، ووقف عند كل جمع، وعرض دعوته على القبائل، لعل أحدًا يؤمن بها ويشد من أزره. وآمن بالدعوة الجديدة بعض أهل مكة، ممن فت افئدتهم ، وسمت نفوسهم صفت، ونضج وعيهم الديني، فالتفوا حول النبي (صلى الله عليه وسلم)، كما آمن عدد من الرقيق والموالي والمستضعفين في مكة، ولم تلق مكة بالاً لهذا الدين الجديد في بادئ الأمر، وعدّت محمدًا (صلى الله عليه وسلم) وصحبه مجموعة من الحنفاء الذين يظهرون ثم يختفون دون أن يلتفت إليهم أحد.


لكن زعماء مكه عامة وقريش خاصة استشعروا خطر محمدًا (صلى الله عليه وسلم) ، حين رأت نفسها أمام دين جديد، ودعوة مختلفة، وجماعة تتكون، وكتابًا يُتلى، وأن الدعوة تجد أنصارًا وإن كانت تشق طريقها ببطء، ثم هالها الأمر حين بدأ النبي (صلى الله عليه وسلم) يهاجم الوثنية وعبادة الأصنام، ويسفّه عبادتها، ورأت قريش أن مكانتها الدينية في خطر، فلجأت إلى مواجهة الدين الجديد ، ومحاصرته بكافة الوسائل التي تضمن القضاء عليه، ولم تجد حرجا فى استخدام كافة وسائل التعذيب والقتل والسجن مع المؤمنين بدعوة محمداً (صلى الله عليه وسلم) ، ولم يسلم النبي (صلى الله عليه وسلم) نفسه من الأذى، وتعرضت حياته للخطر .


الهجرة إلى الحبشة..

حينما اشتد العذاب بأصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) وضاقت بهم السبل، أمرهم (صلى الله عليه وسلم)بالهجرة إلى ارض الحبشة (فإن بها ملكًا لا يُظلم عنده أحد)، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجًا مما أنتم فيه، فخرج فريق من المسلمين متجهين إلى أرض الحبشة، خوفا من الفتنة، وفرارًا بدينهم إلى الله ، فكانت أول هجرة في الإسلام.

وعندما فكر النبي (صلى الله عليه وسلم) في الحبشة كان لعلمه بأحوال شبه الجزيرة العربية، واتجاهاتها السياسية، فلا يوجد مكان أصلح للمسلمين للحماية والإيواء من الحبشة، فالقبائل العربية تربطها بقريش علاقات قوية، وروابط وصلات تمنعها من استقبال هؤلاء المسلمين إذا فكروا في الهجرة إليها، وكذلك بلاد اليمن غير مستقرة يتنافس عليها الفرس والروم، والصراع بين اليهودية والنصرانية، وكذلك لم تكن أي مدينة من مدن الجزيرة العربية تصلح أن تكون مكانًا مناسبًا لإيوائهم، حتى يثرب (المدينة المنورة ) نفسها لم تكن تصلح هي الأخرى في هذا الوقت لاستقبال المهاجرين، حيث كانت تمزقها الخلافات الداخلية، والصراعات بين قبائلها مثل الصراع بين قبيلتى الأوس والخزرج وكان عدد من هاجر إلى الحبشة ثلاثة وثمانين رجلاً.

مقدمات الهجرة الكبرى

بالرغم من أن الحبشة التي يحكمها ملك عادل تصلح أن تكون مأوى صالحًا ومكانًا للحماية، لكنها لم تكن تصلح أن تكون مركزًا للدعوة الاسلامية، ومعقلاً للدين، ولهذا لم يفكر النبي (صلى الله عليه وسلم) في الهجرة إليها، واستمر في عرض دعوته على القبائل العربية التي كانت تفد إلى مكة، أو بالذهاب إلى بعضها كما فعل مع قبيلة ثقيف في الطائف، ولم تكن قريش تتركه يدعو في هدوء، وإنما تتبّعت خطواته، تحذر القبائل من دعوته وتنفّرها منه.

لكن سعي النبي المستمر، وحرصه على تبليغ دعوته كان لا بد أن يؤتي ثماره، فتفتّحت قلوب ستة من رجال الخزرج لدعوته، فأسلموا، ووعدوه بالدعوة للإسلام في يثرب، وبشروه بمساندته له ونصرته لو قُدّر له أن تجتمع عليه قبائل يثرب،

ولم يكد ينتهى العام حتى آمن بالنبي (صلى الله عليه وسلم) في موسم الحج اثنا عشر رجلاً ( تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس)، وعقد معهم بيعة عرفت ببيعة العقبة الأولى، وبايعوه على (ألا يشركوا بالله شيئًا، ولا يسرقوا، ولا يزنوا، ولا يقتلوا أولادهم…).

وأرسل معهم حين عادوا إلى بلادهم مصعب بن عمير، وكان داعية عظيمًا، فقيهًا في الدين، لبقًا فطنًا، حليمًا رفيقًا، ذو صبر وتأنى، فنجح في مهمته ، وانتشر الإسلام في كل بيت هناك، وتهيئت السُبل لتكون يثرب هي دار الهجرة، التي ينطلق إليها المسلمون، ومعقل الدين ومركز الدولة الجديده، وبعد عام عاد مصعب في موسم الحج، ومعه (ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان)، والتقوا بالنبي (صلى الله عليه وسلم ) ليلاً و سرًا وبايعوه بيعة العقبة الثانية، التي كانت تتضمن التزامهم بحماية النبي (صلى الله عليه وسلم) عندما يهاجر إليهم والدفاع عنه، والمحافظة على حياته.

ومن ثم حددت هذه البيعة الوضع القانوني للنبي (صلى الله عليه وسلم) بين أهل يثرب، فاعتبرته واحدًا منهم، دمه كدمهم، وحكمه كحكمهم، وقضت بخروجه ضمنًا من عداد أهل مكة، وانتقال تبعيته إلى أهل يثرب، ولهذا أخفى المتبايعون أمر هذه البيعة عن قريش؛ لأن الفترة بين إتمام هذه البيعة، ووصوله (صلى الله عليه وسلم) لا يلتزم أهل يثرب خلالها بحماية النبي الكريم إذا وقع له مكروه أو أذى من قريش.

التجهيز للهجرة

وبعد أن تمّت بيعة العقبة الثانية أمر النبي (صلى الله عليه وسلم) أصحابه بالهجرة إلى المدينة، فهاجروا أفرادًا وجماعات، يتخفّى بها من يخشى على نفسه، ويعلنها من يجد في نفسه القدرة على التحدي.

ولم تقف قريش إزاء هذه الهجرة مكتوفة اليدين، فحاولت أن ترد من استطاعت رده، لتفتنه في دينه أو تعذبه أو تنكل به، ولكن دون جدوى، فقد هاجر معظم المسلمين، وبقى النبي (صلى الله عليه وسلم) في مكة، ووقعت قريش في حيرة هل سيظل النبى (صلى الله عليه وسلم) في مكة كما فعل في الهجرة إلى الحبشة، أم سيهاجر في هذه المرة مع أصحابه؟

وفي هذا خطر شديد عليهم ، لأنه يستطيع في يثرب أن ينظم جماعته، ويقيم دولته، وبذلك ستتهدد مكانة قريش بين القبائل، وتضيع زعامتها، وتتأثر تجارتها، وعزمت قريش أمرها، واتخذت قرارها بقتل النبي (صلى الله عليه وسلم) قبل أن تفلت الفرصة من بين أيديها، ويتحقق ما تخشاه، فأعدوا مؤامره لهذا الغرض الدنيء، وأشركوا جميع القبائل في قتله حتى يتفرق دمه بين القبائل وبذلك لا يقوى بنو هاشم على محاربة أهل مكة، وقاموا باختيار شاب قوي من بين أبنائها ، ،

وقد سجل القرآن الكريم نبأ هذه المؤامرة الخسيسة في قوله تعالى: “وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين (الأنفال: الآية 30).


الهجرة وأسباب النجاح

اتخذ النبي (صلى الله عليه وسلم) كل الأسباب التي تضمن نجاح هجرته إلى المدينة التي ترتب عليها قيام دولة الإسلام، واتساع رقعتها، وسطوع حضارتها، ولعل أهم الأسباب هو نجاحه الباهر في إعداد المكان الذي سينزل به هو وأصحابه، مستخدمًا كل الوسائل الممكنة من توثيق العلاقات مع أهل يثرب بعقد معاهدتين عظيمتين، وإرسال داعية عظيم الكفاءة، قوي الإيمان، شديد الإخلاص لنشر الدين (مصعب بن عمير)، وجذب الأتباع هناك، والسبب الثاني من أسباب النجاح هو اختيار الوقت المناسب للهجرة، فلم يعقد النبي (صلى الله عليه وسلم) العزم على الهجرة إلا بعد أن تأكد من رسوخ إيمان أهل يثرب، وتعهدهم بحمايته والدفاع عنه، وذلك في بيعة العقبة الثانية، إذن لم تعد هناك حاجة لبقائه في مكة بعد أن وجد النصرة والمنعة عند أهل يثرب، والسبب الثالث هو الخطة الجيده للهجرة التي اتبعها النبي في خروجه من مكة إلى المدينة، في واحدة من أعظم ما عرف تاريخ المغامرة في سبيل الحق والعقيدة والإيمان قوة وروعة، وتفاصيل هذه الهجرة مذكورة في كتب السيرة، ولسنا في حاجة إلى سردها الآن، ولكن يمكن القول بأنها كانت سرية إلى أقصى حد، ودقيقة إلى أبعد مدى، ووضع لها النبي (صلى الله عليه وسلم) كل ما في وسع البشر وطاقتهم من وسائل تضمن لها النجاح، وخطط تحقق لها التوفيق، فأخذ بالاسباب فإذا لم يفلح ذلك كله، فستأتي عناية الله في اللحظة المناسبة.

الرسول في المدينة

وما إن وصل النبي المدينة في ضحى يوم الإثنين، الموافق (12 من ربيع الأول للسنة الأولى من الهجرة الموافق 24 سبتمبر 622م) حتى بدأ العمل الجاد، والسعي الدءوب، حتى أكمل رسالته على نحو لا مثيل له في تاريخ الإنسانية.

ولم تكن يثرب عندما نزلها النبي (صلى الله عليه وسلم) مدينة بالمعنى المعروف، وإنما كانت واحات متفرقة في سهل فسيح يسكنها قبائل الأوس والخزرج والجماعات اليهودية، فنظّم العمران بالمدينة، وشق بها طرقا ممهدة، وكان المسجد هو الأساس في هذا التنظيم، انتظم حوله عمران المدينة الجديدة، وانتظمت شوارعها.

وكان المسجد هو مقر الرئاسة الذي تقام فيه الصلاة، وتُناقش فيه كل الأمور، وتُعقد به مجالس التشاور للسلم والحرب وكذلك استقبال الوفود، وبجوار المسجد اتخذ النبي مساكنه، وكانت متصلة بالمسجد، بحيث يخرج منها إلى صلاته مباشرة، وأصبح من السُنّة أن تُبْنى المساجد وبجوارها بيوت الولاة ودواوين الحكم، ثم أصلح النبي ما بين قبيلتى الأوس والخزرج وأزال ما بينهما من عداوة، وجمعهما في اسم واحد هو الأنصار، ثم آخى بينهم وبين المهاجرين على أساس أن المؤمنين إخوة، وكانت المرة الأولى التي يعرف فيها العرب شيئا يسمى الأخوة، دون قرابة أو صلة رحم، حيث جعل كل رجل من المهاجرين يؤاخي رجلا من الأنصار، فيصير الرجلان أخوين، بينهما من الروابط ما بين الأخوين من قرابة الدم.
 
وبعد المؤاخاة كانت الصحيفة، وهي الدستور الذي وضعه النبي (صلى الله عليه وسلم) لتنظيم الحياة في المدينة، وتحديد العلاقات بينها وبين جيرانها، وهذه الوثيقة لم يُمْلِها النبي (صلى الله عليه وسلم) من تلقاء نفسه، وإنما كانت نتيجة مناقشات ومشاورات بينه وبين أصحابه من المهاجرين والأنصار وغيرهم، وكلما استقروا على مبدأ قام الرسول بإملاء نصه على علي بن أبي طالب (رضى الله عنه)، وشيئا فشيئا اكتملت الوثيقة، وأصبحت دستورا للجماعة الجديدة، ولا يُعرف من قبل ان قامت دولة منذ إنشائها على أساس دستور مكتوب غير هذه الدولة الإسلامية الجديدة، ولكن كانت تقام الدول أولا، ثم يتطور أمرها بعد ذلك ويتم وضع دستور لها، وأدت هذه السياسة الحكيمة إلى قيام جماعة متآلفة متحابة، وإلى ازدياد عدد سكان المدينة حتى تضاعف عدد سكانها عما كانوا عليه من قبل الى أكثر من خمس مرات، بعد أن أقبل الناس على سكناها، طلبا للأمن والعدل في ظل الإسلام، والتماسًا لبركة مجاورة النبي (صلى الله عليه وسلم)، واستجابة لما دعا إليه القرآن من الهجرة إلى الله وإلى رسوله.


بين الهجرة إلى الحبشة والهجرة إلى المدينة

كانت الهجرة إلى المدينة ضرورة ملحة فرضتها الأحداث و الصعوبات التي أحاطت بالنبي (صلى الله عليه وسلم) في مكة، وأصبح لزاما عليه السعي إلى مكان آخر تُمارَس فيها شعائر الإسلام، وتُطبّق أحكامه، وتنطلق دعوته إلى كل مكان، دون مزاحمة أو تضييق ، ومكة فى هذا التوقيت لم تعد صالحة لهذه الفترة من عمر الرسالة، لأن العداء قد بلغ مبلغه من العداء ضد الدين الجديد، وأصبحت هناك صعوبة بالغة في استكمال الدعوة التي تحتاج إلى دولة مستقرة حتى تنجح راسلتها.

ولم تكن الحبشة التي تنعم بالعدل والأمان تصلح لهذه الفترة ، نظرا لاختلاف البيئة اللغوية والدينية هناك ، الأمر الذي جعل حركة الإسلام هناك بطيئة، وبلا فاعلية، ولا تسمح هذه البيئة بالتطبيق ، ومن ثم لم تكن هناك مدينة في شبه الجزيرة العربية تصلح لاستقبال الدين في الفترة الثانية إلا يثرب التي أُطلق عليها مدينة الرسول.
google-playkhamsatmostaqltradent